صرير الأجساد في حلبة السلطة: عن الحرب، الثورة، والمقاومة الممكنة
. ''عن العرض المسرحي "صرير
المنذر الدمني
تقدّم الفيلسوفة الألمانية-الأميركية حنّا أرندت في كتابها "في الثورة" تأمّلًا عميقًا في العلاقة الوثيقة بين الثورة والحرب، باعتبارهما القضيتين الأساسيتين اللتين شكّلتا ملامح القرن العشرين. وتوضح أرندت كيف عاش العالم بين خوف دائم من الإبادة الشاملة نتيجة الحروب وتطور أسلحة الدمار الشامل، وبين الأمل بتحرير الإنسان من خلال
..ثورات الشعوب المتعاقبة، بحثًا عن الحرية بوصفها القيمة الأعلى التي ينشدها الإنسان. هذه الحرية، بمعناها السياسي، التي تعني التحرر من الاستبداد
وفي السياق ذاته، يشير سيغموند فرويد في كتابه عن "أزمنة الموت والحرب" إلى الأثر العميق للحروب على السلوك البشري، مبينًا كيف تُحطّم الحرب وهم الحضارة وتغيّر موقفنا الثابت إزاء الموت، إذ تنقلنا من وهم الخلود الشخصي إلى إدراك حتمي لعبثية الموت في ساحات القتال.ل
وعلى الرغم من أن أرندت وفرويد تناولا القرن العشرين، إلا أن أفكارهما ما تزال تنطبق على ملامح القرن الحادي والعشرين، لا سيما في العالم العربي. فمنذ حرب العراق في بدايات القرن، مرورًا بالحروب المتكررة على غزة، وصولًا إلى ثورات عام 2011 وتحولاتها إلى صراعات دموية، ظلّت الحرب والثورة عاملين حاسمين في تشكيل الواقع المعاصر في المنطقة. وفي قلب هذه التحولات تبرز القضية الأهم: الحرية تلك التي ظلّت تتأرجح بين كونها هدفًا ساميًا وذريعة تُستخدم لتبرير الحروب، كما تفعل إسرائيل حتى في عدوانها الأخير على غزة.ة
وفي ظل المتغيرات الراهنة، من سقوط النظام في سوريا، إلى تخفيف حدة الحرب على لبنان، وبقاء غزة تحت نيران القصف، تعود الأسئلة الكبرى لتفرض نفسها: كيف نواجه الموت والحرب؟ كيف نتعافى من جراح ما بعد الكارثة؟ ما دور الإنسان، وما دور السلطات، في إعادة بناء عالم مدمَّر؟ وهل ستتكرر الخطابات التي تحثنا بالدخول في معركة دائرية للبحث عن الحرية؟
عالم محاصر
يناقش العرض المسرحي "صرير"، الذي قُدّم مؤخرًا في بيروت، هذه الأسئلة المصيرية حول الموت، الحرب، الحرية، وموقع الإنسان في عالم ما بعد الكارثة. يبدأ العرض بمقدمة مسلسل الأنمي الشهير "عدنان ولينا"، التي تُعلن عن نهاية الحرب العالمية الثالثة، الكارثة الكبرى التي أنهت العالم القديم وفتحت الأبواب أمام عالم جديد غامض ومشوّه.ه
في فضاء المسرح الفارغ، يقتحم المشهد برميل حديدي، هو ذاته البرميل الذي استخدم في قصف المدنيين في سوريا، والبراميل التي خُزنت فيها الأسلحة الكيماوية. هذا الاختراق الأول يفتح أمام الشخصيات مساحة لاكتشاف المجهول. وعندما يتعرفون إلى هذا "الشيء"، يحاولون بناء عالم مرح ولكن سرعان ما تصادره السلطة.ة
تتجسّد السلطة من خلال شخصية تعتلي منصة مرتفعة، تلقي خطابًا سياسيًا تحفيزيًا، يشبه خطابات الأنظمة العربية بعد الهزائم: خطاب محمّل بالتحريض، يدعو إلى القتال مهما كان الثمن حتى ولو كان المنازل والأرواح. يتسلل هذا الخطاب إلى أجساد الشخصيات، فيتحولون إلى مقاتلين أشبه بلاعبي ملاكمة، داخل حلبة محاصرة بأربعة براميل موصولة بأشرطة صفراء تمنع الاقتراب، في معركة دون عدو واضح.ح
لكن الأجساد تبدأ بالتحرر من خطاب القتال إلى رفضه. وعندما تتصاعد حالة الرفض، يظهر خطاب السلطة من جديد، هذه المرة بوجه ناعم: خطاب تنمية بشرية يدعو إلى "الثورة الداخلية" بدل انتفاضات الشوارع. إنه الخطاب الذي يمتص الغضب، ويحول الثورات إلى "ترندات" فارغة على مواقع التواصل. أثناء هذا المشهد، تُعتقل الأجساد وهي مبتسمة، صورة تستحضر ملامح المعتقلين الفلسطينيين في حراك الشيخ جراح عام 2021، قبل أن تتغطى وجوههم بالثياب.ب
عند هذه النقطة، تبدأ المرحلة الثانية من العرض: الصراع الداخلي. ومع نجاح السلطة في استعادة السيطرة على المشهد، يتم خلق مناخ صراع وهمي يشيح بالنظر عن العدو الحقيقي ويقمع أي فعل ثوري حقيقي. تتجسد هذه المرحلة في ثلاث شخصيات: إحداها تصارع رأسها الثقيل الذي يعيقها عن الحركة، وأخرى تصارع سيطرة آلة الكمان على جسدها، بينما تعيش الثالثة صراعها مع عالم يرفضها منذ ولادتها.ا
يدفع هذا الصراع الشخصيات إلى الاقتتال في ما بينها. وهنا يتجلى خطاب السلطة الثالث، الذي يتجسد في شكل خطابات المؤسسات اللاحكومية (الإن جي أو)، التي تحوّل معاناة الناس إلى مادة استهلاكية وتعاطف زائف، تُسوق الناس كضحايا فاقدي القدرة.ة
لكن المفاجأة تحدث حين تبدأ الشخصية التي تمثل السلطة بالتفكير: تدرك فجأة أنها فقدت القدرة على الشعور بأي شيء. وفي لحظة تمرّد نادرة، تغني أغنية "الحر" لريم بنا من ألبوم تجليات الوجد والثورة، محاولةً كسر قالب السلطة، والبحث عن معنى حرية حقيقي.ي
في اللحظة الختامية، تتكاتف الشخصيات لمحاصرة السلطة بالبراميل والطوب المتناثر على الخشبة. يفعلون ذلك في محاولة لصناعة عالم جديد، حيث تحاصر السلطة نفسها، ويفتح الأفق أمامهم للبحث عن حريتهم المبتغاة.ة
خطاب السلطة
يطرح العرض خطاب السلطة عبر ثلاثة مستويات تتجسد من خلال شخصية واحدة تمثّل هذه السلطة، وتُعبّر عن تحولات الخطاب السلطوي في سياق الحروب والثورات وكيفية محاصرته للناس في عالم ما بعد الكارثة.ة
المستوى الأول هو خطاب السلطة المباشر، خطاب شمولي حاشد يدعو للاستمرار في القتال دون جدوى، ويدفع الشخصيات إلى البقاء في حالة دائمة من التعبئة والتجهّز حتى في غياب عدو واضح. إنه خطاب يعيد إنتاج مناخ الهزيمة بشكل مقنّع تحت شعارات النصر.ر
أما المستوى الثاني، فهو خطاب السلطة الناعمة، المتمثل في مؤسسات التنمية البشرية والسوشيال ميديا. خطاب يُحبط أي محاولة فعل حقيقي، ويمتص طاقة الرفض nوالغضب بتحويلها إلى دعوات للثورة الداخلية، أو ترندات على وسائل التواصل، تُفرغ الانتفاضات من بعدها السياسي والاجتماعي.ي
المستوى الثالث يتجسد في خطاب مؤسسات الإغاثة والمؤسسات غير الحكومية، التي تعيد تكريس صورة الإنسان كضحية مسلوبة الإرادة، من خلال تعاطف استعراضي مقيت، يُجرّد الناس من الشعور حقيقي، ويضعهم في قوالب نمطية كضحايا دائمين.ن
ينعكس أثر هذه الخطابات السلطوية المتعددة على الشخصيات من خلال وجودهم الجسدي وصراعاتهم، إذ يواجهون بدايةً المكان الذي يضيق عليهم ويفرض مناخ القتال، ثم يصارعون أجسادهم ووحدتهم وبؤسهم الشخصي، وأخيرًا يتحول الصراع إلى صراع مع بعضهم البعض، في محاكاة لحال المجتمعات الممزقة التي تعيد إنتاج صراعاتها الداخلية بعيدًا عن عدوها الحقيقي.ي
وضمن هذا المشهد، تلعب الموسيقى الحية دور سلطة إضافية، تتحكم بالمزاج العام، وتخلق الجو الذي يربط بين شخصية السلطة التي تحمل الخطاب اللفظي، وبين الشخصيات التي تتلقى الخطاب عبر أجسادها، لتصبح الموسيقى هنا سلطة غير مرئية تتأثر وتؤثّر؛ تصنع الإيقاع الذي يُحرك الجميع.ع
وفي النهاية، يكسر العرض نمطية شخصية السلطة، حين تخرج الشخصية من الكاركتر السلطوي وتغني أغنية "الحر" لريم بنا، في محاولة ما للرفض، وتوقًا لمعنى حرية حقيقي خارج الأطر السلطوية التي شكّلت المشهد طوال العرض.ض
البُعد الثالث
في عرض "صرير"، نحن أمام بناء درامي-جمالي مركّب، يشتغل على ثلاثة مستويات من الشخصيات، تفتح بدورها مستويات متشابكة للوجود البشري في عالم ما بعد الكارثة.ة
المستوى الأول هو الشخصيات الثلاثة التي تمثّل الإنسان العادي، بجسده وصراعاته المتداخلة: صراع مع الذات، صراع مع السلطة، وصراع مع العالم. وقد تم التعبير عن هذه الشخصيات من خلال لغة الجسد، حيث تحوّل الجسد إلى سجل مرئي حيّ، يعكس آثار العنف والخطاب السلطوي، وتجسيدًا ملموسًا لثقل الصراعات على وجود الإنسان.ن
أما المستوى الثاني، فهو شخصية السلطة، التي حملت الخطاب الكلامي المباشر والمُتبدل، متنقلةً بين خطابات شمولية تعبويّة، وخطابات تنمية بشرية مفرغة من المعنى، وصولًا إلى تعاطف استهلاكي مع الضحايا. هذا التنوع الخطابي كشف تجليات السلطة المختلفة في المجتمع، وقدرتها على التحايل والتشكل وفق مقتضى السياق، دون أن تفقد وظيفتها الأساسية في القمع والسيطرة.ة
المستوى الثالث يتمثل في الموسيقيين الذين يعزفون حيًّا على الخشبة. هم اللاعبون الخفيّون الذين يصنعون المناخ الصوتي العام، ويمارسون سلطتهم على الأجساد من خلال النغمة والإيقاع، حيث تتحرّك الشخصيات وتتنفس وتتصارع على إيقاع هذا الصوت المتبدل، ما يجعل الموسيقى سلطة غير مرئية، تحكم العالم من الخلفية.ة
بهذا التداخل بين الجسد، الخطاب، والموسيقى، قدّم العرض تركيبة معقدة للوجود البشري، تتفادى الثنائيات الكلاسيكية (جلاد/ضحية، سلطة/مقاومة)، وتمنح العرض بُعدًا ثالثًا يتسلل إلى البنية العميقة، ويتجلّى في بنية السرد، الحركة، والموسيقى، ليعكس تعقيد العالم الذي نصنعه ونعيش فيه.ه
عناصر العرض
حملت هذه الحكاية رؤيتها السينوغرافية الخاصة، المعتمدة على البراميل والطوب كعناصر أساسية في تشكيل فضاء العرض، وهو فضاء يحاكي عالم الحرب والكارثة، بكل هشاشته وعدم استقراره. هذا الفضاء جاء على هيئة حلبة ملاكمة، تعبر عن مناخ القتال الدائم والصراع الذي يُفرض على الأجساد والوعي.ي
مرّ هذا الفضاء بثلاث مراحل درامية متكاملة: أولًا، يُبنى أمامنا مباشرة أثناء العرض، ثم يُستخدم كمساحة للعب والصراع، وأخيرًا يُعاد تشكيله في ختام العرض. هذا التحول في الفضاء جاء موازيًا لتحولات الشخصيات، إذ يبدأ كمساحة مفروضة بشروطها الصارمة، لينقلب في النهاية إلى مساحة طيّعة بين أيدي الشخصيات الثائرة.ة
كانت هذه الرؤية السينوغرافية ديناميكية وحيوية، متناغمة مع الرؤية الإخراجية، التي بدورها انسجمت مع الرؤية الكوريغرافية. حيث اعتمد التصميم الحركي للشخصيات على جستات واقعية مستمدة من تجارب جسدية معاشة لجيل الثورة، ليبني منها لغة حركية متكاملة، تعبر عن تعقيدات الصراع والحكاية. هذا التماهي مع الجسد المعاصر خلق صلة وثيقة مع الذاكرة الجمعية والتجربة المشتركة، بينما منح الشخصيات مجالًا للغوص في تفاصيل تجاربها الخاصة، وهذا يأخذنا نحو البُعد الثاني في اللغة الكوريغرافية التي اعتمدت على جسد الخوف وردات الفعل التي تتشكل نتيجته وهي (الجمود- الهرب- المواجهة) وتم التعبير عن هذه الحالات الثلاثة في كركترات الشخصيات الثلاثة وخياراتها في مواجهة العالم والسلطة.ة
أما مناخ العرض الصوتي والموسيقي، فقد حمل أيضًا مستويات متعددة، ولم يكن مجرد عنصر مرافق. لعبت الموسيقى دور السلطة المتحكمة في لحظات، ثم انتقلت إلى موقع الحليف في لحظات أخرى. تنوع التأليف الموسيقي بين الصوت البشري الحي، الموسيقى الإلكترونية، وموسيقى الكمان، ليصنع علاقات تضاد أو توافق مع ما يُعرض على الخشبة. ومع تصاعد مستويات الصراع بين الشخصيات، كانت الموسيقى جزءًا عضويًا من هذا الصراع، حتى لحظة الانفراج النهائي، حين يتحول المناخ الصوتي إلى حالة توافق شعوري، توازي محاولة الشخصيات تطويع العالم لصالح حريتها.ا
يدفعنا العرض إلى إعادة التفكير في علاقتنا مع ذواتنا، مع السلطة، ومع العالم الذي لا يتوقف عن الانهيار وإعادة تشييد نفسه على ذات الأسس المدمّرة. يجعلنا نواجه أسئلة ملحّة عن مرحلة التعافي، وعن محاولات التصالح والمقاومة، عن ما يجب أن يُقال أو يُفعل في أزمنة الإبادة والدمار الشامل. ولعلّ العرض يحاول أن يقول لنا بأنّه لا شيء يُقال حقًا أمام الإبادة، لكن ثمّة دائمًا مساحة لفعل الرفض والمقاومة، لا باعتبارها فرضًا سلطويًا جديدًا، بل كخيار وجودي حرّ، يحفظ ما تبقى من إنسانيتنا في عالم يسعى بلا هوادة لتحويلنا إما إلى وحوش عنيفة أو آلات باردة لا تشعر بشيء.ء
bبطاقة العرض
أداء:ء
ياسر خطاب
سارة مشموشي
عمر الباكير
ريان الهبطة
موسيقى وأداء: خالد عمران و رومي ملحم
سينوغرافيا و تصميم إضاءة: فارس خليف
تصميم بوستر: فارس خليف
نص محكي: صبا كوراني و حمزة حمادة
منتجة منفذة: سارة مشموشي
اخراج و تصميم: سارة المنعم
المنذر الدمني
.صانع مسرحي (كاتب- دراماتورج- مخرج) وناقد فني، خريج المعهد العالي للفنون المسرحية قسم الدراسات المسرحية في دمشق وطالب ماجستير في الدراسات المسرحية والسينمائية في الجامعة اليسوعية في بيروت، يعمل بشكل أساسي على علاقة الموت والحرية وتجلياتها في السلوك الإنساني خصوصاً ما بعد انفجار الـ 2011، أنتج من خلال بحثه كدراماتورج ومخرج العديد من العروض المسرحية تناقش هذه الثنائية في دمشق وبيروت وعمّان. يمارس الصحافة والنقد الفني ونشر مع العديد من الصحف والمجلات والمواقع.ع